أحكام المساجد 1 :
فضل المساجد:
جاءت الشريعة مبينة فضل المساجد، ومن ذلك أن الله عز وجل أضافها إلى نفسه، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ﴾ (سورة الجن: الآية ١٨)، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ﴾ (سورة التوبة: الآية ١٨).
كما أنها أحب الأرض إليه عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم ) أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها (، وليس ذلك إلا لأن المسجد يذكر بالله ، والسوق يشغل عنه.
فضل بنائها وتعميرها:
لما كانت المساجد أحب البلاد إلى الله عز وجل، لم يكن غريبًا أن يرصد لبنائها الأجور العظام، كما في قوله صلى الله عليه وسلم ) من بنى مسجدًا لله بنى الله له بيتًا في الجنة (.
وعن ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ) من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة لبيضها بنى الله له بيتًا في الجنة (.
وكما جاءت الشريعة حاثة على بناء المساجد، جاءت تحث على محبتها وتقديرها، والنظر إليها بعين التكريم والتعظيم والتقديس والاحترام، لأنها بيوت الله التي بنيت لذكره وعبادته، وتلاوة كتابه وأداء رسالته، ونشر تعاليمه وتبليغ منهجه، وتعارف أتباعه ولقائهم على مائدة العلم والحكمة ومكارم الأخلاق.
فقد قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ (سورة الحج: الآية ٣٢).
وقال سبحانه: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ (سورة النور: الآية ٣٦-٣٧).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ) المسجد بيت كل تقيّ، وتكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح، والرحمة، والجواز على الصراط إلى رضوان الله، إلى الجنة (.
وفي منازل القيامة، وكربات مواقفها، وأهوال مشاهدها، يكون أهل المساجد في ظل عرش الرحمن، آمنين مطمئنين. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ﴿ سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله - وعد منهم - ورجل قلبه معلق بالمساجد ﴾.
ثم يصله تعالى بنعمة الجنة، وما أعده له فيها من نعيم مقيم، وفضل عميم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ) من غدا إلى المسجد أو راح، أعدّ الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح (.
العناية بنظافة المساجد وتطييبها:
وذلك بالمحافظة على نظافة المسجد وعدم إلقاء القاذورات والأوساخ فيه، تعظيمًا لشأنه، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ (سورة الحج: الآية ٣٠)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ) أمرنا رسول الله ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب (، ولفظ أبي داود: ) كان يأمرنا بالمساجد أن نصنعها في دورنا ونصلح صنعتها ونطهرها، وكان عبد الله يجمر المسجد إذا قعد عمر على المنبر (.
فيجب أن يكون نظيفًا وأن نتعهده بالنظافة والعناية وخاصة يوم الجمعة، فعن أبي هريرة ) أن رجلا أسود أو امرأة سوداء كان يَقُمّ المسجد فمات، فسأل عنه النبي فقالوا: مات، قال: أفلا كنتم آذنتموني به؟ دلوني على قبره، أو على قبرها، فأتى القبر فصلى عليه (.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي بال في طائفة المسجد ) إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله تعالى والصلاة وقراءة القرآن (.
أحكام الممنوعات في المساجد :
تنقسم أحكام المسجد إلى ثلاثة أقسام: أحكام واجبة، وأحكام مستحبة، وأحكام مكروهة. وفي هذا المقال سنذكر بعض الأحكام الممنوعة في المساجد من كتاب "المشروع والممنوع في المسجد" لمحمد بن علي العرفج.
1- يمنع وينزه المسجد عن النجاسات والقاذورات:
وفي الحديث عن أنس بن مالك( بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه، دعوه! فتركوه حتى بال. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن". أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه صلى الله عليه وسلم } . ( رواه مسلم ) هذا لفظ مسلم.
2- البصاق:
يستهين بعض الناس بالبصاق فلا يبالون بأن يبصقوا على الأرض أو على الجدران في أي مكان حتى في المسجد، وإذا كان البصاق على الأرض في الطرقات أذى وإضرارا للغير ومجافاة لآداب السلوك وبخاصة بعد انتشار المناديل الورقية وغيرها- فإن فعله في المسجد أكثر إيذاء، حتى عده الشارع خطيئة؛ فقد روى الشيخان عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها } . ( متفق عليه ) .
وروى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( عرضت عليَّ أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالهم الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن } . ( رواه مسلم )
3- الروائح الكريهة:
تنزيه المسجد عن الروائح الكريهة سواء أكانت من آثار أطعمة أو من غيرها، وقد ترجم البخاري لذلك بقوله: (باب ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث ) . وروى مسلم من حديث طويل عن عمر أنه خطب الناس يوم الجمعة، وفيه ( ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد، فأمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلها فليمتهما طبخا } . ( رواه مسلم )
قال العلماء: ويلحق بالثوم والبصل والكراث كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها. قال القاضي عياض: ويلحق به من أكل فجلا وكان يتجشأ.
- ماحكم صلاة من أكل بصلاً او ثوما ؟
- وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
"هذا الحديث وما في معناه من الأحاديث الصحيحة يدل على كراهة حضور المسلم لصلاة الجماعة ما دامت الرائحة توجد منه ظاهرة ، تؤذي من حوله ، سواء كان ذلك من أكل الثوم أو البصل أو الكراث ، أو غيرها من الأشياء المكروهة الرائحة كالدخان ، حتى تذهب الرائحة ، مع العلم بأن الدخان مع قبح رائحته : هو محرم لأضراره الكثيرة وخبثه المعروف ...
ولو قيل بتحريم حضوره المساجد ما دامت الرائحة موجودة : لكان قولا قويا ؛ لأن ذلك هو الأصل في النهي ، كما أن الأصل في الأوامر الوجوب إلا إذا دل دليل خاص على خلاف ذلك ، والله ولي التوفيق" انتهى من " مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (12/83) .
- وعلى كلا القولين (التحريم أو الكراهة ) : فإن من أكل بصلا ، ثم دخل المسجد وصلى : فصلاته صحيحة ، لأن هذه الأحاديث إنما تنهى عن قربان المساجد حتى لا يؤذي الملائكة والمصلين ، وليست نهيا عن نفس الصلاة ، أو بعض أركانها وواجباتها ، وإنما هو نهي عن أمر خارج عن نفس الصلاة .
-
4- دخول الحائض والجنب:
لا يدخل المسجد حائض ولا جنب عند جمهور العلماء؛ لحديث عائشة قالت ( جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم فقال: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" } . ( رواه أبو داود )
وقد أجاز بعض العلماء مرور الجنب في المسجد دون الجلوس فيه؛ لقوله تعالى ﴿ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ﴾ ( سورة النساء آية: 43 ) ، وأجاز بعضهم المكث للجنب في المسجد إن توضأ.
5- نشدان الضالة وتناشد الاشعار :
من فقد شيئا فليطلبه خارج المسجد، ولا يرفع صوته في المسجد ليعرف ما ضاع منه، ويطلب ردها ممن وجدها؛ فقد جاء النهي عن هذا فيما رواه مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك! فإن المساجد لم تبن لهذا } . ( رواه مسلم ) .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تنشد فيه الضالة، وعن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة } ( رواه أحمد وأصحاب السنن ) .
قال ابن رجب في " فتح الباري " (3/335) : " وجمهور العلماء على جواز إنشاد الشعر المباح في المساجد " انتهى
وإذا كان الشعر محتوياً على المعاني العالية ، كالدفاع عن الإسلام وتبيين فضائله والدعوة إليه , وكذا المتون العلمية ونحوها : فذلك مشروع
قال حسان بن ثابت شاعر الرسول لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما لما نهاه عن إنشاد الشعر في المسجد : " كُنْتُ أُنْشِدُ فِيهِ ( أي : المسجد ) ، وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ ( يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم ) " رواه البخاري (3212) .
الحديث في أمر الدنيا ، بحيث يكون هو غالب شأنهم ، مع ما يصحبه من التشويش ، واللغط ، ورفع الصوت ، حتى يصير المسجد بذلك كأنه منتدى لأحاديث الدنيا , فإن المساجد لم تبن لذلك .
وأما إن كان الحديث الدنيوي ليس غالباً على حديث الجالسين في المسجد ، ولم يكن فيه تشويش على المصلين والذاكرين ، ولا لغط ورفع صوت : فلا بأس به
كما جاء في حديث جابر سمرة " كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ ، أَوِ الْغَدَاةَ ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ ، وَكَانُوا [أي : الصحابة] يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَيَضْحَكُونَ ، وَيَتَبَسَّمُ " رواه مسلم (670)
.قال النووي في " المجموع " (2/177) : " يَجُوزُ التَّحَدُّثُ بِالْحَدِيثِ الْمُبَاحِ فِي الْمَسْجِدِ وَبِأُمُورِ الدُّنْيَا وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُبَاحَاتِ ، وَإِنْ حَصَلَ فِيهِ ضَحِكٌ وَنَحْوُهُ مَا دَامَ مُبَاحًا لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " انتهى .
6- رفع الصوت:
يمنع رفع الصوت في المسجد؛ فقد استنبط العلماء من النهي عن نشدان الضالة في المسجد، وعن البيع والشراء فيه- كراهة رفع الصوت في المسجد ؛ لأن رفع الصوت ملازم لما سبق.
رفع الصوت في المسجد عموماً , ولو بقراءة قرآن أو الذكر ، إذا كان يشوش على الحاضرين في المسجد , إلا ما رخص الشرع برفع الصوت فيه ، كالأذان والصلاة الجهرية والخطبة , ونحو ذلك .
وفي الحديث : ( وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ [يعني : في المساجد] ) رواه مسلم (432)
.قال النووي في " شرح صحيح مسلم " (4/156) " أَيِ اخْتِلَاطُهَا وَالْمُنَازَعَةُ وَالْخُصُومَاتُ وَارْتِفَاعُ الْأَصْوَاتِ وَاللَّغَطُ وَالْفِتَنُ الَّتِي فِيهَا " انتهى
.وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : " اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ ، فَكَشَفَ السِّتْرَ ، وَقَالَ : ( أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ , أَوْ قَالَ : فِي الصَّلَاةِ ) رواه أبو داود (1332) ، وصححه الألباني
.قال النووي في " المجموع " (2/175) : " تُكْرَهُ الْخُصُومَةُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ فِيهِ " انتهى
7- اتخاذ المسجد على قبر:
يمنع اتخاذ المسجد على قبر؛ فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولم يشغله مرضه الذي توفي فيه عن أن يحذر الأمة من ذلك، حتى ولو كان القبر قبر نبي؛ خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به.
وربما أدَّى ذلك إلى الشرك كما آل الأمر بكثير من الأمم السابقة؛ فعن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } ( متفق عليه ) .
8- شد الرحال لغير المساجد الثلاثة:
يمنع شد الرحال لغير المساجد الثلاثة؛ إذ لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم إلا إلى المساجد الثلاثة حيث قال صلى الله عليه وسلم ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا } ( متفق عليه ) أي المسجد النبوي.
9- زخرفتها ونقشها:
يمنع الزخارف والنقوش التي لا فائدة منها، بل فيها إضاعة المال والإسراف والتبذير، وإشغال المصلين عن العبادة.
10- تخصيص مكان في المسجد :
- ليس هذا الفعل من السنة ، بل هو مخالف للسنة ، فقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى أحمد (3/428) ، وأبو داود (862) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ قَالَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ ، وَافْتِرَاشِ السَّبْعِ ، وَأَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرُ " وقد حسنه الألباني بشواهده في " السلسلة الصحيحة " (1168) .
) نَقْرَةِ الْغُرَابِ) هُوَ تَخْفِيف السُّجُود بِحَيْثُ لَا يَمْكُث فِيهِ إِلَّا قَدْر وَضْع الْغُرَاب مِنْقَاره فِيمَا يُرِيد أَكْله .
) وَافْتِرَاشِ السَّبْعِ ) هُوَ أَنْ يَبْسُط ذِرَاعَيْهِ فِي السُّجُود وَلَا يَرْفَعهُمَا عَنْ الْأَرْض كَمَا يَبْسُط السَّبُع وَالْكَلْب وَالذِّئْب ذِرَاعَيْهِ .
) وَأَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرُ) أي : أن يألف الرجل مكانا معلوما من المسجد لا يصلي إلا فيه كالبعير لا يأوي من عَطَنِه إلا إلى مَبْرَك دَمِثٍ قد أوطنه واتخذه مناخا لا يبرك إلا فيه .
انظر : " شرح السندي لسنن النسائي " ، " عون المعبود شرح سنن أبي داود " .
-
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله " مجموع الفتاوى " (22/195) :
" ليس لأحد من الناس أن يختص بشيء من المسجد بحيث يمنع غيره منه دائما ، بل قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إيطان كإيطان البعير ، قال العلماء : معناه أن يتخذ الرجل مكانا من المسجد لا يصلى إلا فيه" انتهى .
فيكره للرجل أن يتخذ مكانا في المسجد لا يصلي فيه .
وقد ذكر العلماء عدة حكم لهذا الحكم ، وبعض المفاسد المترتبة عليه .
فمن ذلك : أن العبادة في هذا المكان تصير طبعا وعادة له فيفقد لذة العبادة وحلاوتها .
وأيضا : فيه شيء من الرياء والشهرة ، فقد يصلي في هذا المكان ليقال : هذا مكان فلان .
وأيضا : قد يمنع غيره من الصلاة في هذا المكان ، فيكون قد ظلم غيره ومنعه من حقه .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"وحكمته : أن يؤدي إلى الشهرة والرياء والسمعة والتقيد بالعادات والحظوظ والشهوات ، وكل هذه آفات أي آفات يتعين البعد عما أدى إليها ما أمكن " انتهى .
- ورد أنه لا بأس بتخصيص مكان معين في المسجد للصلاة فيه في صلاة النافلة ، فعن يزيد بن أبي عبيد قال : " كُنْتُ آتِي مَعَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فَيُصَلِّي عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ فَقُلْتُ : يَا أَبَا مُسْلِمٍ ، أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ . قَالَ : فَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا " رواه البخاري (502) ، ومسلم (509).
قال ابن رجب في " فتح الباري " (2/644-648) :
" وفي الحديث دليل على أنه لا بأس أن يلزم المصلي مكانا معينا من المسجد يصلي فيه تطوعا . وقد ورد في رواية التصريح بأن هذه الصلاة كانت تطوعا .
وقد ورد النهي عن أن يوطن الرجل له مكانا في المسجد يصلي فيه .... ثم ذكر الحديث المتقدم في أول الجواب وتكلم على إسناده ثم قال : وقد حمل أصحابنا حديث النهي على الصلاة المفروضة ، وحديث الرخصة على الصلاة النافلة " انتهى .
وهذا الحكم أيضا خاص بالمساجد ، أما البيوت فلا بأس أن يتخذ الرجل مكانا في بيته يصلي فيه ، وقد فعل ذلك عتبان بن مالك رضي الله ، وأقره عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، رواه البخاري (424) ، ومسلم (33) .
11- حكم عقد البيع في المسجد :
- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تنشد فيه الضالة، وعن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة } ( رواه أحمد وأصحاب السنن ) .
- وروى الترمذي (1321) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا : لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ ) ، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في " الإرواء " ( 1295 ) .
- واختلف العلماء رحمهم الله : هل هذا النهي للتحريم أم الكراهة ، وإذا تم عقد البيع داخل المسجد ، هل يحكم بصحته أم لا ؟
والذي عليه جمهور العلماء : أن العقد صحيح مع الكراهة .
- بل قال ابن بطال رحمه الله : " وقد أجمع العلماء أن ما عُقد من البيع في المسجد : أنه لا يجوز نقضه ، إلا أن المسجد ينبغي أن يُجنب جميع أمور الدنيا " انتهى من " شرح صحيح البخارى " (2/105) .
- وهذا الإجماع وإن كان في نقله نظر ، لما سبق من نقل الخلاف عن الحنابلة ، إلا أنه يفيد أن هذا قول عامة العلماء .
فضل المساجد:
جاءت الشريعة مبينة فضل المساجد، ومن ذلك أن الله عز وجل أضافها إلى نفسه، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ﴾ (سورة الجن: الآية ١٨)، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ﴾ (سورة التوبة: الآية ١٨).
كما أنها أحب الأرض إليه عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم ) أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها (، وليس ذلك إلا لأن المسجد يذكر بالله ، والسوق يشغل عنه.
فضل بنائها وتعميرها:
لما كانت المساجد أحب البلاد إلى الله عز وجل، لم يكن غريبًا أن يرصد لبنائها الأجور العظام، كما في قوله صلى الله عليه وسلم ) من بنى مسجدًا لله بنى الله له بيتًا في الجنة (.
وعن ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ) من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة لبيضها بنى الله له بيتًا في الجنة (.
وكما جاءت الشريعة حاثة على بناء المساجد، جاءت تحث على محبتها وتقديرها، والنظر إليها بعين التكريم والتعظيم والتقديس والاحترام، لأنها بيوت الله التي بنيت لذكره وعبادته، وتلاوة كتابه وأداء رسالته، ونشر تعاليمه وتبليغ منهجه، وتعارف أتباعه ولقائهم على مائدة العلم والحكمة ومكارم الأخلاق.
فقد قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ (سورة الحج: الآية ٣٢).
وقال سبحانه: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ (سورة النور: الآية ٣٦-٣٧).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ) المسجد بيت كل تقيّ، وتكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح، والرحمة، والجواز على الصراط إلى رضوان الله، إلى الجنة (.
وفي منازل القيامة، وكربات مواقفها، وأهوال مشاهدها، يكون أهل المساجد في ظل عرش الرحمن، آمنين مطمئنين. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ﴿ سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله - وعد منهم - ورجل قلبه معلق بالمساجد ﴾.
ثم يصله تعالى بنعمة الجنة، وما أعده له فيها من نعيم مقيم، وفضل عميم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ) من غدا إلى المسجد أو راح، أعدّ الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح (.
العناية بنظافة المساجد وتطييبها:
وذلك بالمحافظة على نظافة المسجد وعدم إلقاء القاذورات والأوساخ فيه، تعظيمًا لشأنه، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ (سورة الحج: الآية ٣٠)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ) أمرنا رسول الله ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب (، ولفظ أبي داود: ) كان يأمرنا بالمساجد أن نصنعها في دورنا ونصلح صنعتها ونطهرها، وكان عبد الله يجمر المسجد إذا قعد عمر على المنبر (.
فيجب أن يكون نظيفًا وأن نتعهده بالنظافة والعناية وخاصة يوم الجمعة، فعن أبي هريرة ) أن رجلا أسود أو امرأة سوداء كان يَقُمّ المسجد فمات، فسأل عنه النبي فقالوا: مات، قال: أفلا كنتم آذنتموني به؟ دلوني على قبره، أو على قبرها، فأتى القبر فصلى عليه (.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي بال في طائفة المسجد ) إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله تعالى والصلاة وقراءة القرآن (.
أحكام الممنوعات في المساجد :
تنقسم أحكام المسجد إلى ثلاثة أقسام: أحكام واجبة، وأحكام مستحبة، وأحكام مكروهة. وفي هذا المقال سنذكر بعض الأحكام الممنوعة في المساجد من كتاب "المشروع والممنوع في المسجد" لمحمد بن علي العرفج.
1- يمنع وينزه المسجد عن النجاسات والقاذورات:
وفي الحديث عن أنس بن مالك( بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه، دعوه! فتركوه حتى بال. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن". أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه صلى الله عليه وسلم } . ( رواه مسلم ) هذا لفظ مسلم.
2- البصاق:
يستهين بعض الناس بالبصاق فلا يبالون بأن يبصقوا على الأرض أو على الجدران في أي مكان حتى في المسجد، وإذا كان البصاق على الأرض في الطرقات أذى وإضرارا للغير ومجافاة لآداب السلوك وبخاصة بعد انتشار المناديل الورقية وغيرها- فإن فعله في المسجد أكثر إيذاء، حتى عده الشارع خطيئة؛ فقد روى الشيخان عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها } . ( متفق عليه ) .
وروى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( عرضت عليَّ أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالهم الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن } . ( رواه مسلم )
3- الروائح الكريهة:
تنزيه المسجد عن الروائح الكريهة سواء أكانت من آثار أطعمة أو من غيرها، وقد ترجم البخاري لذلك بقوله: (باب ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث ) . وروى مسلم من حديث طويل عن عمر أنه خطب الناس يوم الجمعة، وفيه ( ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد، فأمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلها فليمتهما طبخا } . ( رواه مسلم )
قال العلماء: ويلحق بالثوم والبصل والكراث كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها. قال القاضي عياض: ويلحق به من أكل فجلا وكان يتجشأ.
- ماحكم صلاة من أكل بصلاً او ثوما ؟
- وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
"هذا الحديث وما في معناه من الأحاديث الصحيحة يدل على كراهة حضور المسلم لصلاة الجماعة ما دامت الرائحة توجد منه ظاهرة ، تؤذي من حوله ، سواء كان ذلك من أكل الثوم أو البصل أو الكراث ، أو غيرها من الأشياء المكروهة الرائحة كالدخان ، حتى تذهب الرائحة ، مع العلم بأن الدخان مع قبح رائحته : هو محرم لأضراره الكثيرة وخبثه المعروف ...
ولو قيل بتحريم حضوره المساجد ما دامت الرائحة موجودة : لكان قولا قويا ؛ لأن ذلك هو الأصل في النهي ، كما أن الأصل في الأوامر الوجوب إلا إذا دل دليل خاص على خلاف ذلك ، والله ولي التوفيق" انتهى من " مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (12/83) .
- وعلى كلا القولين (التحريم أو الكراهة ) : فإن من أكل بصلا ، ثم دخل المسجد وصلى : فصلاته صحيحة ، لأن هذه الأحاديث إنما تنهى عن قربان المساجد حتى لا يؤذي الملائكة والمصلين ، وليست نهيا عن نفس الصلاة ، أو بعض أركانها وواجباتها ، وإنما هو نهي عن أمر خارج عن نفس الصلاة .
-
4- دخول الحائض والجنب:
لا يدخل المسجد حائض ولا جنب عند جمهور العلماء؛ لحديث عائشة قالت ( جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم فقال: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" } . ( رواه أبو داود )
وقد أجاز بعض العلماء مرور الجنب في المسجد دون الجلوس فيه؛ لقوله تعالى ﴿ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ﴾ ( سورة النساء آية: 43 ) ، وأجاز بعضهم المكث للجنب في المسجد إن توضأ.
5- نشدان الضالة وتناشد الاشعار :
من فقد شيئا فليطلبه خارج المسجد، ولا يرفع صوته في المسجد ليعرف ما ضاع منه، ويطلب ردها ممن وجدها؛ فقد جاء النهي عن هذا فيما رواه مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك! فإن المساجد لم تبن لهذا } . ( رواه مسلم ) .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تنشد فيه الضالة، وعن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة } ( رواه أحمد وأصحاب السنن ) .
قال ابن رجب في " فتح الباري " (3/335) : " وجمهور العلماء على جواز إنشاد الشعر المباح في المساجد " انتهى
وإذا كان الشعر محتوياً على المعاني العالية ، كالدفاع عن الإسلام وتبيين فضائله والدعوة إليه , وكذا المتون العلمية ونحوها : فذلك مشروع
قال حسان بن ثابت شاعر الرسول لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما لما نهاه عن إنشاد الشعر في المسجد : " كُنْتُ أُنْشِدُ فِيهِ ( أي : المسجد ) ، وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ ( يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم ) " رواه البخاري (3212) .
الحديث في أمر الدنيا ، بحيث يكون هو غالب شأنهم ، مع ما يصحبه من التشويش ، واللغط ، ورفع الصوت ، حتى يصير المسجد بذلك كأنه منتدى لأحاديث الدنيا , فإن المساجد لم تبن لذلك .
وأما إن كان الحديث الدنيوي ليس غالباً على حديث الجالسين في المسجد ، ولم يكن فيه تشويش على المصلين والذاكرين ، ولا لغط ورفع صوت : فلا بأس به
كما جاء في حديث جابر سمرة " كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ ، أَوِ الْغَدَاةَ ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ ، وَكَانُوا [أي : الصحابة] يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَيَضْحَكُونَ ، وَيَتَبَسَّمُ " رواه مسلم (670)
.قال النووي في " المجموع " (2/177) : " يَجُوزُ التَّحَدُّثُ بِالْحَدِيثِ الْمُبَاحِ فِي الْمَسْجِدِ وَبِأُمُورِ الدُّنْيَا وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُبَاحَاتِ ، وَإِنْ حَصَلَ فِيهِ ضَحِكٌ وَنَحْوُهُ مَا دَامَ مُبَاحًا لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " انتهى .
6- رفع الصوت:
يمنع رفع الصوت في المسجد؛ فقد استنبط العلماء من النهي عن نشدان الضالة في المسجد، وعن البيع والشراء فيه- كراهة رفع الصوت في المسجد ؛ لأن رفع الصوت ملازم لما سبق.
رفع الصوت في المسجد عموماً , ولو بقراءة قرآن أو الذكر ، إذا كان يشوش على الحاضرين في المسجد , إلا ما رخص الشرع برفع الصوت فيه ، كالأذان والصلاة الجهرية والخطبة , ونحو ذلك .
وفي الحديث : ( وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ [يعني : في المساجد] ) رواه مسلم (432)
.قال النووي في " شرح صحيح مسلم " (4/156) " أَيِ اخْتِلَاطُهَا وَالْمُنَازَعَةُ وَالْخُصُومَاتُ وَارْتِفَاعُ الْأَصْوَاتِ وَاللَّغَطُ وَالْفِتَنُ الَّتِي فِيهَا " انتهى
.وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : " اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ ، فَكَشَفَ السِّتْرَ ، وَقَالَ : ( أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ , أَوْ قَالَ : فِي الصَّلَاةِ ) رواه أبو داود (1332) ، وصححه الألباني
.قال النووي في " المجموع " (2/175) : " تُكْرَهُ الْخُصُومَةُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ فِيهِ " انتهى
7- اتخاذ المسجد على قبر:
يمنع اتخاذ المسجد على قبر؛ فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولم يشغله مرضه الذي توفي فيه عن أن يحذر الأمة من ذلك، حتى ولو كان القبر قبر نبي؛ خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به.
وربما أدَّى ذلك إلى الشرك كما آل الأمر بكثير من الأمم السابقة؛ فعن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } ( متفق عليه ) .
8- شد الرحال لغير المساجد الثلاثة:
يمنع شد الرحال لغير المساجد الثلاثة؛ إذ لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم إلا إلى المساجد الثلاثة حيث قال صلى الله عليه وسلم ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا } ( متفق عليه ) أي المسجد النبوي.
9- زخرفتها ونقشها:
يمنع الزخارف والنقوش التي لا فائدة منها، بل فيها إضاعة المال والإسراف والتبذير، وإشغال المصلين عن العبادة.
10- تخصيص مكان في المسجد :
- ليس هذا الفعل من السنة ، بل هو مخالف للسنة ، فقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى أحمد (3/428) ، وأبو داود (862) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ قَالَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ ، وَافْتِرَاشِ السَّبْعِ ، وَأَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرُ " وقد حسنه الألباني بشواهده في " السلسلة الصحيحة " (1168) .
) نَقْرَةِ الْغُرَابِ) هُوَ تَخْفِيف السُّجُود بِحَيْثُ لَا يَمْكُث فِيهِ إِلَّا قَدْر وَضْع الْغُرَاب مِنْقَاره فِيمَا يُرِيد أَكْله .
) وَافْتِرَاشِ السَّبْعِ ) هُوَ أَنْ يَبْسُط ذِرَاعَيْهِ فِي السُّجُود وَلَا يَرْفَعهُمَا عَنْ الْأَرْض كَمَا يَبْسُط السَّبُع وَالْكَلْب وَالذِّئْب ذِرَاعَيْهِ .
) وَأَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرُ) أي : أن يألف الرجل مكانا معلوما من المسجد لا يصلي إلا فيه كالبعير لا يأوي من عَطَنِه إلا إلى مَبْرَك دَمِثٍ قد أوطنه واتخذه مناخا لا يبرك إلا فيه .
انظر : " شرح السندي لسنن النسائي " ، " عون المعبود شرح سنن أبي داود " .
-
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله " مجموع الفتاوى " (22/195) :
" ليس لأحد من الناس أن يختص بشيء من المسجد بحيث يمنع غيره منه دائما ، بل قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إيطان كإيطان البعير ، قال العلماء : معناه أن يتخذ الرجل مكانا من المسجد لا يصلى إلا فيه" انتهى .
فيكره للرجل أن يتخذ مكانا في المسجد لا يصلي فيه .
وقد ذكر العلماء عدة حكم لهذا الحكم ، وبعض المفاسد المترتبة عليه .
فمن ذلك : أن العبادة في هذا المكان تصير طبعا وعادة له فيفقد لذة العبادة وحلاوتها .
وأيضا : فيه شيء من الرياء والشهرة ، فقد يصلي في هذا المكان ليقال : هذا مكان فلان .
وأيضا : قد يمنع غيره من الصلاة في هذا المكان ، فيكون قد ظلم غيره ومنعه من حقه .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"وحكمته : أن يؤدي إلى الشهرة والرياء والسمعة والتقيد بالعادات والحظوظ والشهوات ، وكل هذه آفات أي آفات يتعين البعد عما أدى إليها ما أمكن " انتهى .
- ورد أنه لا بأس بتخصيص مكان معين في المسجد للصلاة فيه في صلاة النافلة ، فعن يزيد بن أبي عبيد قال : " كُنْتُ آتِي مَعَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فَيُصَلِّي عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ فَقُلْتُ : يَا أَبَا مُسْلِمٍ ، أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ . قَالَ : فَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا " رواه البخاري (502) ، ومسلم (509).
قال ابن رجب في " فتح الباري " (2/644-648) :
" وفي الحديث دليل على أنه لا بأس أن يلزم المصلي مكانا معينا من المسجد يصلي فيه تطوعا . وقد ورد في رواية التصريح بأن هذه الصلاة كانت تطوعا .
وقد ورد النهي عن أن يوطن الرجل له مكانا في المسجد يصلي فيه .... ثم ذكر الحديث المتقدم في أول الجواب وتكلم على إسناده ثم قال : وقد حمل أصحابنا حديث النهي على الصلاة المفروضة ، وحديث الرخصة على الصلاة النافلة " انتهى .
وهذا الحكم أيضا خاص بالمساجد ، أما البيوت فلا بأس أن يتخذ الرجل مكانا في بيته يصلي فيه ، وقد فعل ذلك عتبان بن مالك رضي الله ، وأقره عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، رواه البخاري (424) ، ومسلم (33) .
11- حكم عقد البيع في المسجد :
- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تنشد فيه الضالة، وعن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة } ( رواه أحمد وأصحاب السنن ) .
- وروى الترمذي (1321) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا : لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ ) ، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في " الإرواء " ( 1295 ) .
- واختلف العلماء رحمهم الله : هل هذا النهي للتحريم أم الكراهة ، وإذا تم عقد البيع داخل المسجد ، هل يحكم بصحته أم لا ؟
والذي عليه جمهور العلماء : أن العقد صحيح مع الكراهة .
- بل قال ابن بطال رحمه الله : " وقد أجمع العلماء أن ما عُقد من البيع في المسجد : أنه لا يجوز نقضه ، إلا أن المسجد ينبغي أن يُجنب جميع أمور الدنيا " انتهى من " شرح صحيح البخارى " (2/105) .
- وهذا الإجماع وإن كان في نقله نظر ، لما سبق من نقل الخلاف عن الحنابلة ، إلا أنه يفيد أن هذا قول عامة العلماء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق